كيف يمكن تحويل الرجة السياسية في تونس الى فرصة لتحسين حوكمة قطاع المناجم
English »
في أواخر جويلية/أيلول/يوليو، استند الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى الفصل 80 من الدستور التونسي الصادر في العام 2014 لتعليق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النوّاب وإنهاء مهام رئيس الحكومة وبعض الوزراء. وقد انقسم الرأي العام بين مؤيّدٍ لهذه الخطوة ومعارضٍ لها.
وجاء هذا القرار وسط تظاهرات عمّت البلاد للمطالبة باستقالة الحكومة وحلّ البرلمان الذي يعتبره الكثيرون ملاذاً للسياسيين الفاسدين الذين يستغلون الحصانة البرلمانية للإفلات من العقاب. وفي نفس اليوم الذي صدر فيه القرار، نزل عدد كبير من التونسيين إلى الشارع للاحتفال.
لكنّ بعض الأطراف، كائتلاف الأحزاب الحاكمة، ندّدت في البداية بهذه الخطوة معتبرةً إياها انقلاباً ومحاولةً للاستيلاء على السلطة، لكنّها تسببت في اختلافات داخل هذه الاحزاب بين رافض ومساند. وفي ظلّ هذه الآراء المتباينة، حافظت مجموعة كبيرة من التونسيين على تفاؤلها الحذِر، ومن بينها منظمات رائدة في الدفاع عن حقوق الإنسان ونقابة المحامين والاتحاد العمالي، وأقرّت بضرورة حدوث تغيير سياسي واقتصادي جذريّ من دون إضاعة المكاسب الديمقراطية التي كافحت تونس لتحقيقها.
ولإرضاء جميع الأطراف، أجرى الرئيس اجتماعات مع عدد من الجهات الرقابية الرئيسية أشار فيها إلى أن التدابير الجديدة مؤقّتة وأنّ شغله الشاغل الآن هو الاستجابة لتطلعات التونسيين فيما يتعلق بالتنمية الصحية والاقتصادية والاجتماعية. وبالرغم من معارضة كلّ الأطراف السياسية للطريقة التي تعامل بها الرئيس مع الموضوع، إلا أنها أيّدت مساعيه وسارعت إلى التعبيرعن أولوياتها المتمثلة بمعالجة الأسباب الجذرية للمشاكل المتفشية، أي سوء الحوكمة والفساد المتفشّي.
وفي 9 أوت/آب/أغسطس، منع القطب القضائي الاقتصادي والمالي 12 من المسؤولين الحاليين و السابقين من السفر على خلفية شبهات فساد في استخراج الفسفاط ونقله. وبعد يومين، اعتقلت السلطات هؤلاء المسؤولين بالإضافة إلى مسؤولَين اثنين آخرَين بتهم الفساد. وتجدر الإشارة إلى أنّ الفسفاط، المستخدم في إنتاج الأسمدة، يشكل الركن الأساسي لقطاع المناجم التونسي لكنه غالباً ما كان عاملاً مسبّباً للاضطرابات الاجتماعية. وفيما يَعِد الرئيس التونسي بالقضاء على الفساد في نقل الفسفاط، يبقى من الضروري اعتماد استراتيجية شاملة لمعالجة مسألة الحوكمة في قطاع المناجم.
مكافحة الفساد في قطاع الفسفاط مهمة لكن غير كافية لوحدها لتحسين حوكمة المناجم
وضع الرئيس التونسي الفسفاط على رأس قائمة أولوياته الملحّة نظراً إلى أنّ القطاع مثقل بالفساد وتضارب المصالح، على حدّ قوله. وبعد أيام قليلة من حلّ البرلمان، شدّد الرئيس على ضرورة العودة إلى مستويات إنتاج الفسفاط السابقة، علماً وأن الإنتاج قد تراجع في الحوض المنجمي بقفصة في السنوات القليلة الماضية بسبب الاضطرابات الاجتماعية والاعتصامات المتفرّقة. ومع تراجع الإنتاج من 8 ملايين طن في العام 2010 إلى 3,8 ملايين طن في العام 2019، وجدت تونس نفسها مضطرة إلى استيراد الفسفاط بعد أن كانت من أكبر الدول المصدّرة له في العالم. ويطمح الرئيس التونسي إلى الحدّ من تراجع الإنتاج عن طريق مكافحة شبهات الفساد في نقل الفسفاط. ومع أن تونس اليوم بحاجة ماسّة إلى مكافحة الفساد، إلا أنه من الضروري فهم المشاكل المتعلقة بحوكمة قطاع المناجم بشكل أعمق لتكون الرؤية الإصلاحية شاملة.
قفصة والفسفاط: ضعف الحوكمة في قطاع المناجم سبب جذريّ للاضطرابات الاجتماعية
يشكل الفسفاط مصدراً كبيراً للإيرادات الحكومية إذ إنه يمثّل 4 في المئة من الناتج الداخلي الخام و15 في المئة من الصادرات التونسية. مع ذلك، لم ينتفع سكان الحوض المنجمي بقفصة في جنوب غرب البلاد من القطاع، بل تسجّل قفصة معدلا من أعلى معدلات البطالة في تونس بسبب الخطط التنموية غير الناجعة التي تعتمدها الدولة في المنطقة. وفي العام 2018، حلّت قفصة في المرتبة السابعة عشر من بين 24 ولاية على صعيد مؤشرات التنمية.
وإلى جانب التنمية الضعيفة وفرص العمل الضئيلة، يعاني المجتمع المحلي في قفصة أيضاً من الآثار البيئية السلبية الناجمة عن إنتاج الفسفاط. فعلى سبيل المثال، يتطلب استخراج الفسفاط عبر المعالجة المائية كميات هائلة من المياه، ما يؤدي إلى نقص مستمر في التّزود بها. وقد ألحق ذلك الضرر أيضاً بالزراعة التي تُعدّ قطاعاً أساسياً لتحقيق التنمية المستدامة والأمن الغذائي. وعانى المواطنون الأمرّين في هذا الصيف بالتحديد مع ارتفاع درجات الحرارة إلى 49 درجة مئوية، ناهيك عن جائحة كوفيد-19 وانقطاع المياه المستمرّ.
و قد افضى هذا الوضع الى تواتر الاضطرابات الاجتماعية في الحوض المنجمي بقفصة. وفي العام 2010، شهدت قفصة أكبر عدد من الاحتجاجات في البلاد (1774 احتجاجاً من بين 8759). وتعود الاضطرابات الاجتماعية إلى العام 2008 عندما ندّد سكان قفصة بغياب الشفافية في عملية التوظيف في شركة فسفاط قفصة الحكومية. ومع أن قطاع الفسفاط يضمّ أكبر عدد من الوظائف في المنطقة، إلا أنه عجز عن معالجة مشكلة البطالة في الجهة التي لا تزال تسجّل ثاني أعلى نسبة بطالة (25,5 في المئة في العام 2019) في تونس. علاوةً على ذلك، أدى تراجع الإنتاج بسبب الاضطرابات الاجتماعية إلى إلحاق الضرر بالاقتصاد الوطني ومن المحتمل أن يتسبب أيضاً في تفاقم مشكلة البطالة في ظل الانخفاض الحادّ لإيرادات شركة فسفاط قفصة.
الحلول قصيرة المدى أدت إلى تفاقم الأزمة في الحوض المنجمي
عجزت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة عن تقديم حلول طويلة المدى من أجل التصدي "للعنة الموارد الطبيعية" في الحوض المنجمي. ونظراً إلى غياب التنوع الاقتصادي في المنطقة، لجأت الطبقة الحاكمة إلى شركة فسفاط قفصة لمعالجة مشكلة البطالة المتزايدة واسترضاء المجتمع المحلي. وبالتالي، وظّفت الشركة و الفروع التابعة لها 21 ألف موظفا إضافيا منذ العام 2011، فرفعت عدد القوى العاملة فيها إلى 30 ألف موظف. إلا أنه يُعتقد أن الكثير من هذه الوظائف هي وهميّة في الواقع. وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة اعتمدت في السابق على شركة فسفاط قفصة لتلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة. وقد اضطلعت الشركة بالفعل، عبر برامج المسؤولية الاجتماعية للشركة، بدور الدولة في قفصة وتولّت حتى تسديد نفقات ذات صلة بالقطاعات الأمنية والدفاعية. فضلاً عن ذلك، تتولى الشركة مسؤولية كافة المصاريف المرتبطة بالخدمات العامة في المنطقة، كالصحة والتعليم. وقد أدت هذه المسؤوليات إلى توسيع دور الشركة في قفصة وتحويلها من جهة تجارية إلى جهة ذات دور سيادي.
وفي حال عدم معالجة المشاكل المتعلقة بفاتورة الأجور المرتفعة وتزايد المسؤوليات السيادية وتراجع الإنتاج، ستتعرض شركة فسفاط قفصة بلا شكّ للانهيار، علماً أنها من أهمّ الدعائم الصناعية للاقتصاد التونسي. ونتيجةّ لذلك، ستلحق أضرار جسيمة أيضاً بشركة تحويل الفسفاط الوطنية المسمّاة بالمجمع الكيميائي التونسي.
الغموض السياسي في تونس يستوجب إصلاحات جذرية
أثارت تصريحات الرئيس التونسي بشأن القضاء على الفساد في نقل الفسفاط ردودَ فعل تفاؤلية ولكن حذرة، خصوصاً أن تحركاته اللاحقة أشارت إلى "العودة إلى المسار الطبيعي". فعلى سبيل المثال، أعلنت الشركة الوطنية للسكك الحديدية عن استئناف أنشطة النقل العام للفسفاط بعد انقطاع طويل. فضلاً عن ذلك، فإنّ قرار منع بعض المسؤولين رفيعي المستوى من السفر وإصدار مذكرات اعتقال بحقّهم يُحيي الأمل في نفوس الكثير من التونسيين بأن التغيير قد بدأ بالفعل، ما يمهد الطريق لمزيد من المساءلة والعدالة.
لكن مشاكل الحوض المنجمي لا تقتصرعلى الفساد فحسب، اذ تشير الأزمة الحالية إلى وجود مشاكل أكبر على صعيد الحوكمة. وبالتالي، يتعين على الحكومة والمجتمع المدني التدقيق في الوضع الراهن والسعي إلى تغييره باعتماد نموذج أكثر استدامةً للحوكمة والتنمية.
وعلى الرغم من الغموض والانقسامات، يمكن أن توفر الاضطرابات السياسية التي تشهدها تونس حالياً فرصاً لتنفيذ إصلاحات جريئة وجذرية. وتتطلب مسألة تحويل دور شركة فسفاط قفصة من دور تجاري واقتصادي إلى دور اجتماعي وسيادي اهتماماً فورياً. فالنموذج غير المستدام للشركة يهدّد وجودها وقد يلحق بالتالي الضرر بالاقتصاد التونسي ويؤدي إلى تفاقم المشاكل المحلية. ولذلك، ينبغي أن تقوم الحكومة بمراجعة هذا النموذج والحرص في الوقت نفسه على تلبية تطلعات المجتمعات المحلية في قفصة.
ويتعين على الرئيس التونسي إطلاق رؤية جديدة وشاملة لقفصة. وتشكل مشاركة المجتمعات المحلية وتولّيها المسؤولية عنصرَين أساسيَين في أيّ استراتيجية من أجل تحقيق التنمية المستدامة في المنطقة.
وينبغي أن تتمحور الرؤية الشاملة التي تقودها الحكومة من أجل التنمية المستدامة والعادلة في قفصة التي لطالما عانت من التهميش حول ثلاثة مجالات رئيسية. أولاً، يجب أن تسعى الحكومة والمشرّعون إلى المحافظة على الاستدامة البيئية في المنطقة في سبيل الحفاظ على التنوع الحيوي والمناطق الزراعية وفي الوقت نفسه تحسين جودة الهواء والمحافظة على الموارد المائية.
وثانياً، يجب أن تحدد الحكومة مساراً واضحاً للسياسات بالاستناد إلى مساهمات المجتمع المدني والمجتمعات المحلية من أجل تحقيق الازدهار الاقتصادي عن طريق تنويع الاقتصاد لكي لا يبقى مقتصرا على إنتاج الفسفاط والاعتماد على شركة فسفاط قفصة. فمن شأن ذلك أن يساهم في استحداث فرص عمل خارج الشركة المذكورة وبالتالي تحسين الظروف المعيشية.
وأخيراً، يجب أن تعالج الحكومة مشكلة التهميش الاجتماعي التي لطالما عانت منها المنطقة، وذلك من خلال الاستثمار في الخدمات الصحية والتعليمية.
وممّا لا شك فيه أن الاضطرابات الاجتماعية في تونس لن تنتهي إلا بعد معالجة المشاكل المتعلقة بانعدام النجاعة والعدالة في قطاع المناجم . وينبغي أن يستغلّ الرئيس التونسي والجهات السياسية الحالية و الفاعلة في البلاد هذه الفرصة لمعالجة هذه المشاكل بجدية.
حنان كسكاس هي منسقة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد حوكمة الموارد الطبيعية. وسام هاني هو مدير مكتب تونس التابع لمعهد حوكمة الموارد الطبيعية. عبير اليحياوي هي منسقة تونس في معهد حوكمة الموارد الطبيعية.
في أواخر جويلية/أيلول/يوليو، استند الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى الفصل 80 من الدستور التونسي الصادر في العام 2014 لتعليق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النوّاب وإنهاء مهام رئيس الحكومة وبعض الوزراء. وقد انقسم الرأي العام بين مؤيّدٍ لهذه الخطوة ومعارضٍ لها.
وجاء هذا القرار وسط تظاهرات عمّت البلاد للمطالبة باستقالة الحكومة وحلّ البرلمان الذي يعتبره الكثيرون ملاذاً للسياسيين الفاسدين الذين يستغلون الحصانة البرلمانية للإفلات من العقاب. وفي نفس اليوم الذي صدر فيه القرار، نزل عدد كبير من التونسيين إلى الشارع للاحتفال.
لكنّ بعض الأطراف، كائتلاف الأحزاب الحاكمة، ندّدت في البداية بهذه الخطوة معتبرةً إياها انقلاباً ومحاولةً للاستيلاء على السلطة، لكنّها تسببت في اختلافات داخل هذه الاحزاب بين رافض ومساند. وفي ظلّ هذه الآراء المتباينة، حافظت مجموعة كبيرة من التونسيين على تفاؤلها الحذِر، ومن بينها منظمات رائدة في الدفاع عن حقوق الإنسان ونقابة المحامين والاتحاد العمالي، وأقرّت بضرورة حدوث تغيير سياسي واقتصادي جذريّ من دون إضاعة المكاسب الديمقراطية التي كافحت تونس لتحقيقها.
ولإرضاء جميع الأطراف، أجرى الرئيس اجتماعات مع عدد من الجهات الرقابية الرئيسية أشار فيها إلى أن التدابير الجديدة مؤقّتة وأنّ شغله الشاغل الآن هو الاستجابة لتطلعات التونسيين فيما يتعلق بالتنمية الصحية والاقتصادية والاجتماعية. وبالرغم من معارضة كلّ الأطراف السياسية للطريقة التي تعامل بها الرئيس مع الموضوع، إلا أنها أيّدت مساعيه وسارعت إلى التعبيرعن أولوياتها المتمثلة بمعالجة الأسباب الجذرية للمشاكل المتفشية، أي سوء الحوكمة والفساد المتفشّي.
وفي 9 أوت/آب/أغسطس، منع القطب القضائي الاقتصادي والمالي 12 من المسؤولين الحاليين و السابقين من السفر على خلفية شبهات فساد في استخراج الفسفاط ونقله. وبعد يومين، اعتقلت السلطات هؤلاء المسؤولين بالإضافة إلى مسؤولَين اثنين آخرَين بتهم الفساد. وتجدر الإشارة إلى أنّ الفسفاط، المستخدم في إنتاج الأسمدة، يشكل الركن الأساسي لقطاع المناجم التونسي لكنه غالباً ما كان عاملاً مسبّباً للاضطرابات الاجتماعية. وفيما يَعِد الرئيس التونسي بالقضاء على الفساد في نقل الفسفاط، يبقى من الضروري اعتماد استراتيجية شاملة لمعالجة مسألة الحوكمة في قطاع المناجم.
مكافحة الفساد في قطاع الفسفاط مهمة لكن غير كافية لوحدها لتحسين حوكمة المناجم
وضع الرئيس التونسي الفسفاط على رأس قائمة أولوياته الملحّة نظراً إلى أنّ القطاع مثقل بالفساد وتضارب المصالح، على حدّ قوله. وبعد أيام قليلة من حلّ البرلمان، شدّد الرئيس على ضرورة العودة إلى مستويات إنتاج الفسفاط السابقة، علماً وأن الإنتاج قد تراجع في الحوض المنجمي بقفصة في السنوات القليلة الماضية بسبب الاضطرابات الاجتماعية والاعتصامات المتفرّقة. ومع تراجع الإنتاج من 8 ملايين طن في العام 2010 إلى 3,8 ملايين طن في العام 2019، وجدت تونس نفسها مضطرة إلى استيراد الفسفاط بعد أن كانت من أكبر الدول المصدّرة له في العالم. ويطمح الرئيس التونسي إلى الحدّ من تراجع الإنتاج عن طريق مكافحة شبهات الفساد في نقل الفسفاط. ومع أن تونس اليوم بحاجة ماسّة إلى مكافحة الفساد، إلا أنه من الضروري فهم المشاكل المتعلقة بحوكمة قطاع المناجم بشكل أعمق لتكون الرؤية الإصلاحية شاملة.
قفصة والفسفاط: ضعف الحوكمة في قطاع المناجم سبب جذريّ للاضطرابات الاجتماعية
يشكل الفسفاط مصدراً كبيراً للإيرادات الحكومية إذ إنه يمثّل 4 في المئة من الناتج الداخلي الخام و15 في المئة من الصادرات التونسية. مع ذلك، لم ينتفع سكان الحوض المنجمي بقفصة في جنوب غرب البلاد من القطاع، بل تسجّل قفصة معدلا من أعلى معدلات البطالة في تونس بسبب الخطط التنموية غير الناجعة التي تعتمدها الدولة في المنطقة. وفي العام 2018، حلّت قفصة في المرتبة السابعة عشر من بين 24 ولاية على صعيد مؤشرات التنمية.
وإلى جانب التنمية الضعيفة وفرص العمل الضئيلة، يعاني المجتمع المحلي في قفصة أيضاً من الآثار البيئية السلبية الناجمة عن إنتاج الفسفاط. فعلى سبيل المثال، يتطلب استخراج الفسفاط عبر المعالجة المائية كميات هائلة من المياه، ما يؤدي إلى نقص مستمر في التّزود بها. وقد ألحق ذلك الضرر أيضاً بالزراعة التي تُعدّ قطاعاً أساسياً لتحقيق التنمية المستدامة والأمن الغذائي. وعانى المواطنون الأمرّين في هذا الصيف بالتحديد مع ارتفاع درجات الحرارة إلى 49 درجة مئوية، ناهيك عن جائحة كوفيد-19 وانقطاع المياه المستمرّ.
و قد افضى هذا الوضع الى تواتر الاضطرابات الاجتماعية في الحوض المنجمي بقفصة. وفي العام 2010، شهدت قفصة أكبر عدد من الاحتجاجات في البلاد (1774 احتجاجاً من بين 8759). وتعود الاضطرابات الاجتماعية إلى العام 2008 عندما ندّد سكان قفصة بغياب الشفافية في عملية التوظيف في شركة فسفاط قفصة الحكومية. ومع أن قطاع الفسفاط يضمّ أكبر عدد من الوظائف في المنطقة، إلا أنه عجز عن معالجة مشكلة البطالة في الجهة التي لا تزال تسجّل ثاني أعلى نسبة بطالة (25,5 في المئة في العام 2019) في تونس. علاوةً على ذلك، أدى تراجع الإنتاج بسبب الاضطرابات الاجتماعية إلى إلحاق الضرر بالاقتصاد الوطني ومن المحتمل أن يتسبب أيضاً في تفاقم مشكلة البطالة في ظل الانخفاض الحادّ لإيرادات شركة فسفاط قفصة.
الحلول قصيرة المدى أدت إلى تفاقم الأزمة في الحوض المنجمي
عجزت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة عن تقديم حلول طويلة المدى من أجل التصدي "للعنة الموارد الطبيعية" في الحوض المنجمي. ونظراً إلى غياب التنوع الاقتصادي في المنطقة، لجأت الطبقة الحاكمة إلى شركة فسفاط قفصة لمعالجة مشكلة البطالة المتزايدة واسترضاء المجتمع المحلي. وبالتالي، وظّفت الشركة و الفروع التابعة لها 21 ألف موظفا إضافيا منذ العام 2011، فرفعت عدد القوى العاملة فيها إلى 30 ألف موظف. إلا أنه يُعتقد أن الكثير من هذه الوظائف هي وهميّة في الواقع. وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة اعتمدت في السابق على شركة فسفاط قفصة لتلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة. وقد اضطلعت الشركة بالفعل، عبر برامج المسؤولية الاجتماعية للشركة، بدور الدولة في قفصة وتولّت حتى تسديد نفقات ذات صلة بالقطاعات الأمنية والدفاعية. فضلاً عن ذلك، تتولى الشركة مسؤولية كافة المصاريف المرتبطة بالخدمات العامة في المنطقة، كالصحة والتعليم. وقد أدت هذه المسؤوليات إلى توسيع دور الشركة في قفصة وتحويلها من جهة تجارية إلى جهة ذات دور سيادي.
وفي حال عدم معالجة المشاكل المتعلقة بفاتورة الأجور المرتفعة وتزايد المسؤوليات السيادية وتراجع الإنتاج، ستتعرض شركة فسفاط قفصة بلا شكّ للانهيار، علماً أنها من أهمّ الدعائم الصناعية للاقتصاد التونسي. ونتيجةّ لذلك، ستلحق أضرار جسيمة أيضاً بشركة تحويل الفسفاط الوطنية المسمّاة بالمجمع الكيميائي التونسي.
الغموض السياسي في تونس يستوجب إصلاحات جذرية
أثارت تصريحات الرئيس التونسي بشأن القضاء على الفساد في نقل الفسفاط ردودَ فعل تفاؤلية ولكن حذرة، خصوصاً أن تحركاته اللاحقة أشارت إلى "العودة إلى المسار الطبيعي". فعلى سبيل المثال، أعلنت الشركة الوطنية للسكك الحديدية عن استئناف أنشطة النقل العام للفسفاط بعد انقطاع طويل. فضلاً عن ذلك، فإنّ قرار منع بعض المسؤولين رفيعي المستوى من السفر وإصدار مذكرات اعتقال بحقّهم يُحيي الأمل في نفوس الكثير من التونسيين بأن التغيير قد بدأ بالفعل، ما يمهد الطريق لمزيد من المساءلة والعدالة.
لكن مشاكل الحوض المنجمي لا تقتصرعلى الفساد فحسب، اذ تشير الأزمة الحالية إلى وجود مشاكل أكبر على صعيد الحوكمة. وبالتالي، يتعين على الحكومة والمجتمع المدني التدقيق في الوضع الراهن والسعي إلى تغييره باعتماد نموذج أكثر استدامةً للحوكمة والتنمية.
وعلى الرغم من الغموض والانقسامات، يمكن أن توفر الاضطرابات السياسية التي تشهدها تونس حالياً فرصاً لتنفيذ إصلاحات جريئة وجذرية. وتتطلب مسألة تحويل دور شركة فسفاط قفصة من دور تجاري واقتصادي إلى دور اجتماعي وسيادي اهتماماً فورياً. فالنموذج غير المستدام للشركة يهدّد وجودها وقد يلحق بالتالي الضرر بالاقتصاد التونسي ويؤدي إلى تفاقم المشاكل المحلية. ولذلك، ينبغي أن تقوم الحكومة بمراجعة هذا النموذج والحرص في الوقت نفسه على تلبية تطلعات المجتمعات المحلية في قفصة.
ويتعين على الرئيس التونسي إطلاق رؤية جديدة وشاملة لقفصة. وتشكل مشاركة المجتمعات المحلية وتولّيها المسؤولية عنصرَين أساسيَين في أيّ استراتيجية من أجل تحقيق التنمية المستدامة في المنطقة.
وينبغي أن تتمحور الرؤية الشاملة التي تقودها الحكومة من أجل التنمية المستدامة والعادلة في قفصة التي لطالما عانت من التهميش حول ثلاثة مجالات رئيسية. أولاً، يجب أن تسعى الحكومة والمشرّعون إلى المحافظة على الاستدامة البيئية في المنطقة في سبيل الحفاظ على التنوع الحيوي والمناطق الزراعية وفي الوقت نفسه تحسين جودة الهواء والمحافظة على الموارد المائية.
وثانياً، يجب أن تحدد الحكومة مساراً واضحاً للسياسات بالاستناد إلى مساهمات المجتمع المدني والمجتمعات المحلية من أجل تحقيق الازدهار الاقتصادي عن طريق تنويع الاقتصاد لكي لا يبقى مقتصرا على إنتاج الفسفاط والاعتماد على شركة فسفاط قفصة. فمن شأن ذلك أن يساهم في استحداث فرص عمل خارج الشركة المذكورة وبالتالي تحسين الظروف المعيشية.
وأخيراً، يجب أن تعالج الحكومة مشكلة التهميش الاجتماعي التي لطالما عانت منها المنطقة، وذلك من خلال الاستثمار في الخدمات الصحية والتعليمية.
وممّا لا شك فيه أن الاضطرابات الاجتماعية في تونس لن تنتهي إلا بعد معالجة المشاكل المتعلقة بانعدام النجاعة والعدالة في قطاع المناجم . وينبغي أن يستغلّ الرئيس التونسي والجهات السياسية الحالية و الفاعلة في البلاد هذه الفرصة لمعالجة هذه المشاكل بجدية.
حنان كسكاس هي منسقة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد حوكمة الموارد الطبيعية. وسام هاني هو مدير مكتب تونس التابع لمعهد حوكمة الموارد الطبيعية. عبير اليحياوي هي منسقة تونس في معهد حوكمة الموارد الطبيعية.